نفحة رمضانية
د. طهراوي محمد الحبيب
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
إن من طبيعة النفوس أن تفتر وتمل، وأن تتعب وتكل، سيما مع طول الزمان، ومغريات الشيطان، وحينئذ تضعف عن أداء الواجبات والقيام بالطاعات، كما يقل تأثرها بها واستفادتها منها، ومن حكمة الله ورحمته أن جعل لها ما يقوي ضعفها ، ويشحذ عزمها، ويزيد إيمانها، وذلك من خلال التفضيل الذي خص الله به بعض العباد والبلاد والأزمان، وهذا التخصيص قصره الله على نفسه وجعلها حقاً له وحده دون سائر خلقه فقال جل وعلا { وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة } [ سورة القصص : 68 ] فهو سبحانه وتعالى " فإن الخيرة لله تعالى في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها " (1) " المتفرد بالخلق والاختيار وليس له في ذلك منازع ولا معقب " (2) فالله جل وعلا اختار من بين البشر الرسل والأنبياء عليهم السلام وخصهم بوحيه وشرفهم برسالته : { الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس } [ سورة الحج : 75 ] فكان ذلك خيراً للبشر ليبصروا القدوة في أسمى صورها وأكمل أحوالها، وليشاهدوا الدعوة في أفضل أساليبها وأقوى حججها، وليتبلغوا أوامر الله ويعرفوا أحكامه ويميزوا بين الحق والباطل : { يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم } [ سورة النساء : 170 ] وقد قال الله تعالى : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ سورة الأنعام : 124 ]، واختار الله وتعالى من بقاع الأرض الأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة وعظمها بما جعل لها من الحرمة، وحسنها بما وضع فيها من البركة، وفضلها بما خصها به من مضاعفة الأجور، رغم أنه لا فرق بينها وبين غيرها من حيث طبيعتها وخلقتها، فتعلقت بها القلوب، وهفت إليها النفوس، وقصدها المسلمون من شرق الأرض وغربها، تحدوهم الطاعة، والأمل في المغفرة والمثوبة { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق } [ سورة الحج : 27 ] ، وخص المولى جلت قدرته من الأزمان أزماناً خصها بتنـزل الرحمات، وزيادة الخيرات، ومضاعفة الحسنات، ومنها: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } [ سورة البقرة : 185 ] وهو نفحة من الزمان طويلة المدى لاستمرارها شهراً كاملاً، وما عداه من الأزمان الفاضلة مفرد كيوم عرفة، ولا يتجاوز عشرة أيام كعشر ذي الحجة .
وفي شهر رمضان نفحات عظيمة، وأعطيات جزيلة يحسن بالمسلم أن يتعرض لها، وينتفع بها، وقد أخرج ابن أبي الدنيا والطبراني وغيرها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : ( اطلبوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة ربكم ، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده ، وسلوا الله أن يستر عوراتكم، ويأمِّن روعاتكم ) (3) وفي رواية للطبراني من حديث محمد بن سلمة مرفوعاً ( إن لله في أيام الدهر نفحات فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبداً ) (4) .
ومن ثم فإن المسلم تقوى في نفسه البواعث لاغتنام الأجر واقتناص الخير، وهذا ما يوضح لنا ما يكون عليه غالب المسلمين من استجابة وإنابة وإقبال على الطاعة، وحرص على أداء الصلوات في الجماعة ونحو ذلك، مع ما يحرصون عليه من ترك المكروهات، واجتناب المحرمات، والترفع عن التفاهات، " والسعيد من اغتنم الشهور والأيام والساعات وتقرب إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات " (5) .
إن الله جل وعلا شرع الصوم " إيقاظاً للروح، وتصحيحاً للجسد، وتقوية للإرادة، وتعويداً على الصبر، وتعريفاً بالنعمة، وتربية لمشاعر الرحمة، وتدريباً على كمال التسليم لله رب العالمين " (6) ، لقد ساق الله في رمضان خيراً كثيراً فهو للمسلمين " ربيع القلوب، ونعيم الأنفس، وصيام الجوارح عن الأذى وفطام المشاعر عن الهوى، بعد أحد عشر شهراً قضوها في صراع مع المادة، وجهاد في العيش تكدر فيها القلب وتبلد الحس، وتلوث الضمير، فيجلوا صدورهم بالذكر، ويطهر نفوسهم بالعبادة، ويزود قلوبهم من مذخور الخير يقويها على احتمال الفتن والمحن في دنيا الآمال والآلام بقية العام كله" (7) .
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وسائر أعمالنا ،واجعلنا في كل الأزمان لك عابدين ،وفي كل الأحوال بك موصولين، وفي كل مكان عليك متوكلين ، والحمد لله رب العالمين .
-----------------
الهوامش :
(1) الكشاف للزمخشري (3/188).
(2) تفسير ابن كثير (3/633).
(3) عزاه السيوطي في الجامع الصغير لابن أبي الدنيا في الفرج والشدة (انظر فيض القدير 1/541).
(4) ذكر هذا الحديث والذي قبله الحافظ ابن رجب في لطائف المعارف (ص
.
(5) لطائف المعارف (ص
.
(6) العبادة في الإسلام (ص:279).
(7) في ضوء الرسالة (ص:217).